عندما أُصبتُ بالكورونا



بقلم | نسيبة علاوي

أعترف.. تخلَّيتُ عن إجراءات الحماية لفترة قصيرة ألهتني المشاغل فيها عن التحرز، فإذا بالفايروس اللعين يشنُّ هجومه عليَّ و سقطتُ -للأسف- فريسة له،كانت أعراضه تشبه الإنفلونزا العادية إلى حد كبير ،ففي البداية طمأنتُ نفسي بأنها نزلة برد سرعان ما ستزول .. ثم و في اليوم الثالث و إذ بي أتفاجأ بفقدي لحاستيْ الشم و الذوق لتبدأ الأحداث الماضية بالترابط حين مرورها أمام عينيْ بلمح البصر.. و إذا بي أُوقن -بمرارة- بأنها الكورونا!!

كلُّ موعود آت..و أنت بقلقك تجذب أسوأ مخاوفك إليك ، إنها النتيجة الطبيعية للمخالطة..و لكن هلاوسك الدفينة و خوفك المرتقب قد أودا لهذه النهاية الغير سعيدة، و تحقق أسوء كوابيسك رعبًا!

إذن من الآن لا مخالطة،لا خروج،لا حرية،لاأعمال يومية ،لا حياة، سأقبع ها هنا في زنزانتي المقررة-غرفتي-وحيدة ،قلقة،مترقبة، كأنه فصل من فصول الموت ، حين يدَعونك في القبر وحيدًا، تسمع قرع الأرجل المبتعدة،و أصوات الأحياء من حولك و لسان حالك يقول :رب ارجعون!

هنا كل الإحتمالات واردة ..أن تتحسن، أن تنتكس، أن تُعدي، أن تُجافىٰ و كأنك حشرة غريبة ، التباعد الفعلي جحيم في ظل واجباتك المنزلية المُعطلة،و التباعد الحسِّي جحيم آخر و الكل مبتعد عنك رغمًا عنه،إحساسك بالنبذ يشتد يومًا بعد يوم و أنت الذي كنتَ سيد البيت و عموده، تُصبح كأنَّ لا وجود لك و لم يمر صوتك من هنا يومًا،هدوء منك و من إزعاجك و من أوامرك ..و ربما اشتياق لك مغلفًا بالصبر .

تنادينا  ابنتي الصغرى من عند الباب و كأني القدس المنعزلة بجدار إجباري عن شعبها :اشتقتُ لكِ يا ماما..متى ستخرجين؟عندها يبدأ وابل من الدموع بالتساقط كرصاص يرفض كل الجُدران ،تبدأ النفسية بالإنحدار و أنتَ ترىٰ كلَّ من خالطتهم خائفون مترقبون ،و ربما حانقون من تهاون
أذنبته .مرضت ابنتي الكبرى في اليوم الخامس بالكورونا أيضًا،وجبل آخر أثقل قلبي المثقل أصلًا بمرضي، هذه المرة قطعة منه تتألم و أنا عاجزة عن منع ذلك ،الحمد لله جاءت خفيفة لابنتي و عابرة ، سررنا باللقاء و بأننا أصبحنا في خانة واحدة و إن كان سرورًا ممزوجًا بحزن العزلة.هذا الفايروس لابد أن يكون لعنة مُركبة ،فهو يُهاجم جسدك و روحك ..فإذا بك عليل النَفَس والنفْس،في يومي الثامن شعرتُ و كأنَّ روحي سجينة فعليًا .. و كأنها طُمست بماء عميق فاختنقتْ و غرغرت إلى حد الموت، فعليًا لا طعم لشيء.. لا للطعام و لا للشراب و لا للحياة بأسرها، فقدتُ عدة أرطال من وزني، تُصبرني كلمات زوجي -اللذي رفض أن ينعزل عني و نجا بقدرة قادر -و أهلي و من وصله خبر مرضي ،لم أُشِعه لأني أحسستُ بشيء من الإنكسار بسبب المرض..كان اسمه لوحده يثير فيَّ رعبًا و نفورًا فكيف بالآخرين؟!

استيقظتُ مرارًا على سُعال عنيف يهز صدري ..فتأخذني الظنون إلى كل مأخذ،لربما هذا هو الموت جاء على شكل ضيق تنفس ليُطبق على رئتاي ،لربما ستتدهور حالتي فأجد نفسي محاطة بأجهزة صناعية تُبقيني على قيد الحياة ..و قيد الأمل ..ثم لا تلبث النوبة أن تهدأ بعد أن أُهرع لشراب القحة و صلواتي. في اليوم الثالث عشر استسلمت ابنتي الصغرى لسخونة مرتفعة و وهن في الجسم، قالت لي أمي أنَّ فتاة في مثل عمرها فقدت حياتها بسبب الإصابة فأحسستُ بخط دفاعي الأخير للمقاومة ينهار ..ريحانة قلبي مريضة..هُرعت بها لأخذ المسحة و الحمد لله بعد يومين -كانت الأسوء في حياتي-ثبتَ أنها غير مُصابة.

في آخر يوم من العزلة المُتمم للواحد و العشرون يومًا من المرض و القلق و الوحشة تمَّ الإفراج عني ،و أنا بخير و عافية و جميع أفراد الأسرة، أيام مرَّت بحجم السنين ،و الشوق لأبسط ممارسات الحياة يطفح من قلبي.. إذ لا قيمة لأي فرح و المرض يسكنك ..عافانا الله .