الشروق الأخير



بقلم : نسيبه علَّاوي

خلق الله في هذا الكون خلقًا لا يكتمل إلا بوجود ضده معنويًا كان أم ماديًا ..فكان لهذه الثنائيات من الأضداد معانٍ و جمالٍ و تكامل خلَّاق فيما بينها.. كالنور و الظلام ..و الموت و الحياة..و الفرح و الحزن ..و التشاؤم و التفاؤل..و الحرب و السلام .
و لو عشنا في الجانب السيء لكلٍ منها إذًا لانقلبت حياتنا جحيمًا لا نُطيقه،و إن عشنا في الجانب الجيد لكانت الحياة فردوسًا مقيمًا و جنة دائمة ..و لكنها الحياة ..و هذه الأضداد محتمة علينا فيها إلى أجلٍ مسمىٰ.

يُحب الإنسان لغة التفاؤل ..فهي آتية من رحم الشؤم..و كأنها تستنجد برحمة الله و بالأمل المزروع في نفسه منذ الأزل ..فتحميه من الوقوع في الكآبة و الآلام النفسية ..و يبقى متطلعًا إلى الأمل و كله مُقل.إنَّ نشر هذه اللغة الجميلة بين الناس أصعب من الشعور بها ذاتيًا لأنها تحتاج غالبًا إلى تحفيز خارجي ..فهي كالبذرة الكامنة في أعماقنا ..تحتاج لأيدٍ ساقية لتُزهر و تترعرع بين جنبات الصدور ..و لربما احتاجت -هذه البذور- لموقف أو مشهد يهزها فيضوع عطرها و ينبت زهرها.

و أنا أقرأ مجموعة لرسائل المنتحرين مرَّت علي في منشور عابر فاستوقفتني.. “جاء في بعضها: ١)لم أستطع أن أُحب نفسي ،لم أكن جيدًا لأعيش هذه الحياة.
٢)أنا لم أكن على قيد الحياة في كل الأحوال .
٣)لا أعرفكم جميعًا و لا أنت تعرفوني، لكني أريد بشدة أنا أناشدكم ألا تقتربوا من قلب أحدٍ إن لم تكن قلوبكم صادقة.. لا تخونوا العهد ..كونوا أوفياء.
٤)كتب قبل أن ينتحر:سأتمشى وصولا إلى الجسر،و إذا ابتسم شخص لي واحد أثناء الطريق لن أقفز ” حدَّثت نفسي بأنه كان بالإمكان جدا المحافظة على روحٍ فارقت الحياة بكلمة تفاؤل..بحضنٍ حانٍ..بوقفة صادقة معها.
لقد افتقد أؤلئك التعساء لدعمٍ يُسندُ إيمانهم بأنفسهم و بالحياة..و كانوا بأشد الحاجة لمن يُبدد عن صدورهم تلك الهواجس السوداء ..لقد شعروا بالوحدة و كان كل واحد ممن حولهم يشعر بأنه كافٍ و بأنه مؤدٍ لدوره على أكمل وجه ،أو أنَّ الأنانية و الإنشغال بالحياة أعمتهم عن رؤية بؤس المنتحر..و مدى تغلغل السواد في روحه ..فاستفاقوا ذات يومٍ علىٰ هول الحادثة ..و ندموا حيث لا ينفع الندم !!

رغم حساسية الموضوع و رأي الدين فيه و اختلاف نسبه بين الشرق و الغرب إلا أنه واقع يجب ملاحظته ..فكم نفسٍ بيننا تحدث نفسها بهذا الهاجس و نحن لا نعلم؟ و كم مرَّ علينا من أفكار سوداء لا يعلم بها إلا الله -رغم إيماننا- ؟
هل كنا دعمًا حقيقيًا لمن حولنا “ابن أو والد أو صديق أو أخ أو زوج”؟ و كم احتجنا دعمًا في لحظة بائسة و لم نجد من يحتوينا..كم مرة تقوقعنا على ذواتنا بألم حتى أحاط بنا اليأس من كل جانب لولا أن انتشلتنا يد رحمته و لطفه في آخر لحظة؟!

لننفذ ببصيرتنا على من حولنا ..لنكن تلك اليد الرحيمة التي تمسح على القلوب المتعبة ..و الأرواح اليائسة ،بأقل القليل أنت تستطيع أن تُنقذ روح لا يعلم بوجعها إلا خالقها ،و لنلجأ لأحبائنا -بعد الله- في أحزاننا ..فهذا حقنا عليهم ..و ما الوحدة في الأحزان إلا وساوس شيطانية موردة إلى الهلاك .