التقليد الأعمى



أحد المعجزات هي النفس البشرية ، والتي لا يعلم ما تخفي إلا الله ، والأغرب منها تلك العضلة الصغيرة في ذلك القفص المملوء بالأجهزة الحيوية والأوعية الدموية والذي يتلاعب بالمشاعر حبا وكرها وياله من قلب مكار نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه، فسبحانه من خالق أبدع، جعل تلك المضغة صلاحاً أو ضياعاً لصاحبها.

أودع الله في ذلك القلب حب التملك ، ولا سيما المال والبنون ، ولا عجب في التفاخر بهما دون تكبر، و في زمننا هذا تخطينا ذلك ، وأصبحت المظاهر من ملبس وسيارة واثاث المنزل بل وحتى طريقة الحياة واختيار أماكن الأكل والشرب، وتعابير الوجه وحركة اليدين ،لها معايير راقية يجب مراعاتها انطلاقًا من الوضع الإجتماعي (التقليد الأعمى للأغنياء) ولا عجب إذا كان الفاعل من هذه الطبقة الغنية أو قريباً منها، ولكن تكمن المصيبة في من ليس لديه ما لديهم، وانتهج نهجهم.

من وقت قريب قرأت عن بداية مايسمى بالموضة ، ووجدت أنها حيلة ذكية كان يستخدمها التجار لسرقة أموال الأثرياء في أوروبا ، عن طريق فرض معايير معينة، وتغييرات مستمرة في أتفه الأشياء، واعتبارها آخر صيحات الإبداع والإنجاز، لجعل الأثرياء مميزين عن غيرهم، فهم ينفقون أموالهم كيفما يشاؤون ،فهم يغرفون من بحر إن جاز التعبير وهم المقصودون بالسرقة المزينة بخطوط الموضة، وهم القادرون على دفع المبالغ الباهضة على شيئ تافه ، الغريب أن من قام يسابقهم للموضة ، وربما تقلد الديون، وأدمع العيون ،هم الطبقة المتوسطة والفقيرة، محاولين مجاراة التيار واتباع الموضة المزعومة، لا ننكر أن هنالك إبداعات ، ولكن الكثير مما يسمى بالموظة إنما هو استغفال صريح اللهجة، فلا أعلم كيف توضع رقعة على بنطال ليصبح رائعاً، أو بنطال مقطوع وكأن كائناً مّا قام بعضه ، ولكن دون أثر لدم المعضوض سوى بريق المال الذي يدفع لقاءه، أعود فأقول القلب وما يهوى، ولكن ما الهدف من بعض قصات الشعر ، ووضع أشكال هندسية وفواصل لتحديد العوارض ، بل أصبحت تقام لها معارض، والحلاق يتلاعب بشعر وجه الرجل ولا يعارض، مالهدف من مجاراة الآخرين وتقليد الذين لا يقارنون بنا لا كماً ولا كيفاً .

سألت نفسي عن الخدع التي تنتهج نهج الموظة المزعومة؟وكيف أبدعنا في التعامل معها وفقاً للظروف؟

وجدت أن أول خدعة هي موديلات السيارات، فالفرق بين اصدار العام الماضي وهذا العام هو تغير طفيف في المصباح الخلفيّ للسيارة ، حيث أصبح هنالك انحناء طفيف في شكل الإضاءة ، وأصبح موديلاً جديداً بفارق سعرٍ ليس بقليل، ولم نفترض ان سيارات العام الماضي تكدست ولم تبع ، فكان الحل في تلك الإضاءة السحرية الصغيرة ، ولكنها أحدث ما صُنع فهي مثيرة، نهض (عاشق كل ماهو جديد)، ليستبدل سيارة العام بالسيارة الجديدة ولكنه لا يستطيع ان يبيع التي لديه ويشتري الجديدة، فلا مال في رصيده، وديونه عديده، فاختار الطريق الأسهل، ليواكب ذلك التغيير العظيم، فاستبدل المصباح الخلفي لسيارته والذي لا يشكو من شيء، سوى انه اصبح قديماً ويرمز للماضي بآخر من الشكل الحديث، وياللهول حينما عاد ليقود سيارته ويجد انه لا يرى المصباح الخلفي وهو يقود السيارة، فلم يستمتع به ، ولم تكن سيارته أكثر تسارعاً بعد وضعه ،وإنما وضعه ولا يعلم السبب، والمؤلم في الموضوع أن أول من قابله من أصحابه قال له:( جميل أن المصباح الخلفي للموديل الجديد مطابق في التركيب للمصباح القديم) والاغرب اذا جاء آخر يسأله من اين اشتريته ليرتكب نفس جريمة التحديث التي قام بها .

واذا طبقنا ذلك على كثير من جوانب الحياة لوجدنا ان ذلك التيار جارف ، فعلى سبيل المثال اجهزة الجوال ، وكل عام يظهر اصدار جديد، نهض مرة أخرى (عاشق كل ماهو جديد)والذي لديه إصدار سابق يحتوي على كاميرتين فقط، ولكن الإصدار الجديد من جواله به كاميرا ثالثة ، ورغم ان قلة ماله اخسرته حربه ،لكن اليأس لم يعارض دربه ،بل فكر بعقله وقلبه ، ولا زال يبحث بمكرٍ عن طريقة ليضع كاميرا ثالثة مع الأخريين في جهازه القديم.

ومع مانعاصره الآن ، فما أجمل أن نتذكر أن الغاية تبرر الوسيلة مهما مضى عليها الزمن ، والثقة بالنفس تلغي معايير المظاهر الزائفة، والقناعة كنز لا يعرفه الا أصحابه .