بعد عشرين عام



في زمن أصبح التباعد الإجتماعي مطلباً إن لم يكن واجباً، تباعدنا بأجسادنا وقلوبنا ،وكأن هذه الجائحة تحاول القضاء على ماتبقى من الروابط الإجتماعية ، الروابط الإجتماعية المنهارة أصلاً و التي كانت تحاول التعافي بعد العقدين الماضيين من ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وانتشار الأجهزة الذكية .حيث أصبح جميع البشر يمتلكون هواتف محمولة إلا ماندر، بتلك الشاشات الذكية التي تحمل في طياتها الكثير والكثير، كما تحتفظ بالصور والذكريات، نعم الذكريات لأيام الوصل الاجتماعي وليس التواصل الاجتماعي، أيام الوصل الإجتماعي كانت الأسرة فعلاً تأسر جميع أفرادها معاً ،تجمعهم بطريقة توجيهية دينية تربوية جميلة، وترتقي للعائلة من أقارب فتجد التقارب الأخوي وكأنهم أسرة واحدة، وترتقي تلك المنظومة للجيران وأهل الحي ،وترى ترابطاً عجيباً، ووقوفاً مهيباً، يجمعهم عليه الحب والإخاء والترابط ، إبان وقت الرخاء ولا سيما في وقت الشدة على حد سواء.

كان يفوق هذه الروابط جميعها رابط الصداقة، وإنها لكنز ثمين ، لا تأتي بين يوم وليلة وإنما تترسخ على مر الأيام والسنين، وتقوي أواصرها ساعات العسر ، كما تحليها ساعات اليسر، ذكرياتها تبعث في النفس الإرتياح ، نجاح الصديق ومشاركته النجاح، وهو عضد الغد وإشراقة الصباح، وهو رفيق طوال العمر. محظوظ من يجد صديقه الحقيقي في حياته ، فالبعض قد يموت ولم يجد صديقًا ، ولا أعني بالصداقة هنا زميل الفصل أو العمل، أو شريك التجارة او نحوه، ولا أقلل من شأن صحبتهم ، إنما قصدت الصديق الذي إذا كشرت الدنيا بأنيابها قصدته، وإذا ضحكت الدنيا لك أسعدته .

انتهى ذلك الزمن وتحولنا للصديق الذي نقضي الساعات نحاوره ولا نعلم من هو إلا من خلال معرف الكتروني عبر شاشة الأجهزة الذكية ،نتشارك أفراحنا وأحزاننا على صفحات الفيس بوك ، ونغرد بآلامنا ، ونضع إحدى الصور حالةً تشكو انكسارنا في الوتساب، أو أخرى تباهياً في السناب.

بعد عشرين عام من ظهور تلك الأجهزة أدركت أن الصداقة الحقيقية عبارة عن بلورة تنكسر من أصغر حجر ترمى به ،كما يبدو أننا حتى نحن أصدقاء الماضي تعبنا من الصداقة الحقيقية، وفضلنا صداقة أجهزتنا المحمولة بمن فيها، أصبحت أعيادنا عبارة عن قص وإعادة ارسال، بل وحتى العزاء أصبح مجرد كتابة، بلا مشاعر وانما رسالة، ولا أعلم إلى أين الاتجاه بعد ذلك .